آخر الأحداث والمستجدات
الجزيرة تنشر قصة عبد الرحمان المجدوب دفين مكناس
صوفي مغربي نهل من أعرق الينابيع الصوفية مع بدايات القرن العاشر الهجري، وتذكر المصادر أنه تتلمذ على يد بعض كبار رجال الصوفية في مدينتي مكناس وفاس، وبينهم الشيخ الصنهاجي، والخطاب. كما أن والده كان صوفيا أخذ عن الشيخ إبراهيم أفحام تلميذ الشيخ أحمد زروق، أحد كبار علماء التصوف في المغرب.
حكى عنه أهل التصوف في كتبهم وأحاديثهم، ورووا عنه الكرامات والأعاجيب، أما هو فكان له مسار آخر مختلف تماما عن خيار ومسار جل أقطاب الفكر الصوفي.
فهو لم ينعزل في زاوية، ولم ينحصر وسط مريديه ومحبيه، بل انخرط في دوامة النقد اللاذع للأوضاع السياسية والاجتماعية القائمة، وهاجر إلى مختلف المناطق ينادي بإصلاح السياسة، وإصلاح النفوس، وينتقد تجار الدين، والأوضاع الخاطئة داخل الأسرة وفي القرى والمداشر، ويدعو إلى الفضائل، ويحذر من عبادة الأصنام الجديدة وبينها عبادة المال واستحباب الخضوع للظلم.
سلاحه في ذلك رباعياته الشعرية الزجلية الشهيرة التي تداولتها الألسن وكتب التراث، ونحتت اسمه في سجل كبار دعاة الإصلاح في منطقة المغرب.
إنه عبد الرحمن المجذوب الذي ترجح المصادر التاريخية أنه ولد في رمضان من عام 909 للهجرة الموافق للعام 1506 للميلاد بمنطقة أزمور غربي المغرب، وتوفي عام 976 للهجرة (1573 للميلاد)، ودفن قرب مدينة مكناس (وسط).
اشتهر باسم "المجذوب" الذي يعني محليا الرجل الهائم الملهَم المبارك الذي لا يهتم للمظاهر، والنافر من أصحاب الرياء والمصالح، بينما يعني الاسم في اصطلاح الصوفية -حسب قاموس المعجم الوسيط- "من جَذَبَه الحق إلى حضرته وأوْلاه ما شاء من المواهب بلا كُلفَة ولا مجاهدة ورياضة".
وبعيدا عن صحة نسبة كل الرباعيات إلى المجذوب، لا مناص من التأكيد أن أشعاره تناقلها المغاربة أبا عن جد، حتى إن ديوانا صغيرا يضم كثيرا من الحكم التي قالها انتشر بين المغاربة انتشار النار في الهشيم، ولا يزال الناس يرددونها في المواقف المناسبة.
الكتيب الصغير الذي يضم رباعيات المجذوب يُتداول في الأوساط الشعبية المغربية بكثرة (مواقع التواصل)
رؤساء لا يستحقون
المجذوب الذي ولد في مرحلة سياسية مضطربة وسنوات قليلة قبل بدء تكوّن الدولة السعدية (916هـ/1510م - 1069هـ/1658م)، يرى أن من أسباب تدهور الأوضاع سواء على مستوى الجماعات أو المنطقة كلها، هو وصول رؤساء إلى مناصب لا يملكون الكفاءة لإدارتها، متمثلا في ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري "إذا ضُيّعت الأمانة فانتظر الساعة"، قال: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال "إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة".
وفي ذلك قال المجذوب رباعيته الشهيرة:
تخَلْطَتْ (اختلطت) ولّا بْغَاتْ (أو أرادت) تصفى
ولعب خَزْهَا (الطفيليات الطافحة) فوق ماها (ماءها)
رَيَّاسْ (رؤساء) على غير مرتبة (دون أهلية)
هُمّا (هم) سبب خْــــــــــــلاها (ضياعها)
مبدأ اقتنع به المجذوب، وعززه برباعية أخرى اشتهرت عنه قال فيها:
يا الزمـــــــان يا الغـــــــــــــــــدّار
يا كاسرني من ذراعي
طَيَّحْت (أسقطت) من كان سلطان
وركّبت (أجلست على كرسي الحكم) من كان راعي.
المجذوب كان يرى في تولي مسؤولين مناصب ليسوا أهلا لها كارثة منذرة بزوال العمران (غيتي-أرشيف)
حرية التعبير
وكما كان الحال دائما وفي كل العصور، فإن حرية التعبير تقتصر على ما لا يزعج السلطة أو الوجهاء والقادة، وإلا فإن القمع مصير كل من يرفع عقيرته بانتقاد هذا الوضع أو ذاك.. يقول المجذوب:
راح ذاك الزمان وناسو (أهله)
وجاء ذا الزمان بفاسو (بفأسه)
وكل من يتكلم بالحق
يكسروا له راسو (رأسه)
المجذوب ظل يؤكد أن الجوع والفقر لا يقيمان قائمة لجماعة أو دولة (مواقع التواصل)
الجوع والفقر
ثم ما يلبث الشاعر الصوفي المنادي بالإصلاح في كل مكان، أن ينبه ذوي السلطان إلى أن الجوع والفقر يهدمان البنيان، ولا يقيمان قائمة لجماعة أو دولة. بل يؤكد أن تحصين الناس ضد الجوع هو الأساس الأول لتثبيت الدين نفسه، ومن دون ذلك فلن تقوم للدين قائمة.. وأوضح ذلك في الرباعية الأشهر عنه:
الخبــــــــــــــــز يا الخبز
والخبز هي الإفادة (هو الأساس)
ولو ما كان الخبز
ما تكون لا صلاة لا عبادة
ويقول عن الفقر:
ضربت كفي لكفي
وخَمَّمْت (تأملت) في الأرض ساعة
صَبْت (وجدت) قَلَّةْ الشِّي (الفقر) ترَشّي (تُضعف)
وتنوّض (تُبعد صاحبها) من الجماعة.
فالفقير لا يستطيع أن يبقى بكرامته داخل أي مجموعة، حتى لو كان ذلك في حفل بسيط في قبيلة، فهو لا يقدر على مخالطة الناس وهو محروم من اللباس النظيف، والمال الضروري لتقديم الهدية، وتقديم الدعوة للناس للحضور إلى بيته المتهالك. وفي المقابل عندما تغيب القيم، فإن الناس لا يحتضنون الفقير، بل يشعرون أن المال هو من يحدد قيمة الإنسان.
ويضيف المجذوب في رباعية أخرى عن الموضوع نفسه:
الرجل بلا مال محقور (مقهور)
في الدنيا ما يسوَا شي
المَشْرَارْ (الشرير) كيف (مثل) الدلو المقعور (المثقوب)
يوصل للماء ويرجع بلا شي.
في كثير من رباعياته ندد المجذوب بإقصاء الفقراء وتقييم الناس بناء على أوضاعهم المادية (غيتي-أرشيف)
مظالم اجتماعية
انتشار الظلم والفقر والعوز دفع المجذوب إلى توجيه انتقادات لاذعة للممارسات الاجتماعية التي تكرس تلك المصائب، فانتقد بشدة تقييم الناس بناء على أوضاعهم المادية، ويرى في ذلك عيبا قاتلا لأي مجموعة بشرية، خاصة إذا عمّ وانتشر وصار أمرا معمولا به لا يتجرأ أحد على انتقاده:
الشَّاشِيَّة (قبعة تقليدية) تطيّع الراس (يصبح صاحبها مطاعا)
الوجه تضَوّيه الحْسَانَة (الحلاقة)
المَكْسِي (لابس الثياب النظيفة) يقعد مع الناس
العريان نُوْضُوهْ (اطردوه) من حدانا (من بيننا).
ويحرص المجذوب في هذه النقطة بالذات على التأكيد أن حب الناس للمال حدّ العبادة، هو من الأسباب الرئيسية لاختلاط الموازين التي ترفع أقواما لأنهم أغنياء، وتخفض آخرين لأنهم فقراء.
ويعبر عن ذلك بقوله:
حوَّسْتْ (جُلتُ) شْعَابْ وعُرقوب
وحوَّسْتْ غرب الزناقي (الأزقة)
المال قطعة من القلب
جرّبتها من أعناقي.
المجذوب أكد أنه حيثما حل وارتحل كان يجد أن المال "قطعة من القلب" (رويترز)
تجار الدين
ولم يسلم تجار الدين من سهام نقد الشيخ المجذوب الذي كان يرى أن الصدق أساس التدين الصحيح، وإلا فهو مجرد رياء يستغله أصحابه للحفاظ على مكانة اجتماعية تضمن لهم مصالحهم:
طافوا على الدين تركوه
وتعاونوا على شرب القهاوي (فناجين القهوة)
الثوب من فوق نقّوه
والجْبَاحْ (اللب) من تحت خاوي (فارغ).
بسبب انتقاداته غادر المجذوب منطقته ومارس مهنا يحتقرها الناس وبينها "خمّاس" لدى الفلاحين الميسورين (الأناضول)
سياحة
ولا يمكن لمن يكثر من انتقاداته لكل الأوضاع التي يراها خاطئة سواء تعلق الأمر بالمسؤولين أو بالقيم الاجتماعية، إلا أن ينبذه "الملأ"، وحتى لو لم ينبذوه، فإنه يشعر بالرغبة في المغادرة، خاصة عندما تبقى الأمور على حالها، ولا يظهر أمل في التغيير.. ومع تغير المنازل والوجوه والظروف، تتغير الأوضاع:
آه يا محنتي عُدْت (أصبحت) خمّاس (يشتغل بالخمس لدى الفلاحين)
والتبن أعمى عيوني
خمّست على عِزّة الناس
مْنِينْ (عندما) يوْجدْ (يجهز) العشا يطردوني.
ورغم تدهور أوضاعه بسبب تشبثه بمواقفه الناقدة، لم يستسلم الشيخ المجذوب للفقر ولا لأحكام الناس، بل لجأ إلى العمل حتى في مهن يحتقرها الناس مثل مهنة "الخمّاس" الشاقة المتعبة رغم ضعف مردودها، حيث يتفادى الفلاحون الميسورون تعب الحرث والزرع والحصاد والمتابعة والسقي والمراقبة باللجوء إلى خدمات "الخمّاس".
عندما كانت تضيق دنيا الناس على المجذوب كان يلجأ إلى الطبيعة فيجعل السماء سقفه ويغطي "روحه بالهواء" (الجزيرة)
لكن السياحة في الأرض، والعيش تحت سقف السماء، والتناغم مع موسيقى الريح والأمطار وحفيف الأشجار، كانت دائما الحل الذي يعوض الصوفي الهائم عن كل شيء فقده مع أبناء البشر، ويعبر عن ذلك برباعية لافتة قال فيها:
من الثلج عْملتْ مطرح (اتخذت من الثلج فرشا)
بالهوا غطيت روحي
من القمر عْملتْ مصباح
وبالنجوم ونّستْ روحي.
ثم هو بين هذا وذاك، لا يلبث يذكّر من يلقى بخلاصة تجربته في الحياة، وخلاصة أسفاره وخبرته مع أجيال متعددة من الناس؛ بالتأكيد أن لكل بداية نهاية، وأن ثنائية الحياة والموت هي الحقيقة المكملة للإنسان، وما يزرعه المرء اليوم يحصده غدا:
الأرض فدان ربي
والخلق مجموع فيها
عزرائيل حصاد فريد
مطامرو (قبوره) فْكل جهة.
وإذا كان الفلاحون اعتادوا على إنشاء مطمورة، وهي الحفرة تحت الأرض تخبأ فيها الحبوب والمحاصيل، فإن المقابر هي مطامير ملك الموت، يخبئ فيها "السنابل" البشرية. ولأنه حصّاد فريد من نوعه، فحيثما وليت وجهك تجد له "مطامير"، لعلها تذكّر الناس -مسؤولين وعامة- بأن هناك حياة بعد موت، وحسابا بعد امتحان.
الكاتب : | أحمد حموش |
المصدر : | الجزيرة |
التاريخ : | 2018-11-27 10:44:15 |